الحاصد...

القاص و الكاتب: عبد الجبار الحمدي - العراق كثيرا ما ينعطف الوقت متبرجا بترهات ملصقات مرشحين على جدران و أعمدة منسية، منتهكة صمتها عنوة للواقع المزري... تزين ملصقاتهم اعمدة ميتة، لم تستطيع ان ترفض او تركل منافقين الظلام الدامس، يسير وقد دس أنامله في بطن جيوبه الممزقة... لا لشيء فقط كي بخفيها عن عيون مروجي إعلان انتخبوا من يمثلكم.... علامات استفهام كبيرة وكثيرة؟؟ تخرج في تظاهرة عارية من الملابس الداخلية همها كشف عورة السابقين ممن ترشحوا في وضح النهار... كلما استدار مبتعدا يجد أمامه صور نافقة الضمير... يلبس أحجية الخروج من المتاهة بعناوين اريد وطن، يمسك بزمام لسانه حتى لا يخرج بمفردات تودي به الى السجن، فبالكاد خرج من تلك المرة التي انتقد فيها حمار البرلماني الذي قال عنه إنه لا هم له سوى البحث في مكابات نفايات مثل صاحبه الذي جاء عليه راجلا الى جواره... لم يكمل جملته بعد ان غاب عن الوعي... هناك في تلك الزنزانة كان أنامله تخربش على جسد الجدران... في محاولة القيام بالإعتراض على أساليب تعذيب همجية، لم يعول ان يجد من يقرأ او يجيب على اسئلته، لأنه يعرف الجواب مسبفا، انتعل رأسك وليكن دون شسعه، او أرتضي لنفسك خُفي حُنَين.  أظنني غيبت عن العالم الخارجي سنين جرداء كنت ألقم البعر حبات تمر، واشرب بول الحمير شاي اخضرمرة وقهوة عربية مرة أخرى أنها من واجبات كرم الضيافة... و احتفالا بقرب خروجي من متنزه المعتقل، كنت قبلها قد اخذت دروس تأديبية في كيفية الحفاظ على قيمة المفردة، ألزموني الحجة ان احافظ على أناملي اكثر من حياتي فموعد الانتخابات قد قرب و لابد لي أن أغمس أصبعي في است العلبة ذات اللون البنفسجي بعدها اخرجه مزهوا بأني قد شاركت فرحة بعص الديمقراطية...  لكني برغم كل تلك التدخلات والتهديدات رمت نفسي عاشق لمقولة أنا حر، سرت تلك الكلمات و من خلال الوشاة و ديوثي السلطة كالنار في الهشيم، سارعت مبتعدا الى حيث لا اذن تسمع ولا عين ترى، واكبت الحدث الإعلام يغرد كما الغربان التي تتصهلل... البشر فيهم من جهر بالموافقة والقول، ومنهم من ألزم نفسه الخرس، أما أناملي فقد كانت تركض حيث كابينة الإقتراع، تسوقني دون أن أرغب... امسك بتلابيب الورقة، خطفت القلم من فم جيب صاحبه المريض نفسيا، كتبت على الورقة أنت لا تصلح لأن تكون ممثلا إلا في حظيرة الحيوانات... أما حظيرة البشر اجدك منافقا...  لم أشهد أناملي التي تسابق يدي كي تمسك بالقلم و هناك ملقن لا زال يقول خلف كابينات كارتونية أكتب... فترد أناملي ما انا بكاتب... بقدرة قادر تجولت الى مناهض لسلطة الدولة فأدارت مفاتيح زنازين الى الكعبة مصنوعة في الولايات المتحدة الامريكية لتشهد أنها حاولت لملمة شمل العراق من جهة وصون عش الدبابير التركي... في النهاية وجدتني في منتصف الطريق و امامي تلك الملصقات والصور التي احرقت ليتدفئ عليها أنامل من غمروا اصابعهم في أفواه دون أرانب... أما البقية فقد كانت تبحث عن مكان لأثر السجود في زمن التدين سلطة المارقين. القاص و الكاتب: عبد الجبار الحمدي - العراق مبعثرة أيامي كأشياء طفل أرعن... أو كشظايا مرآة متكسرة... أراني أسف الأرصفة متسكعا أزقة مظلمة مكبات النفايات هي العامل المشترك فيها... أووه لقد نسيت و المشردين أمثالي يقبعون الى جانب تلك الحاويات ظنا منهم أنها منتجعات ترفيهية يسامرون شياطين الزندقة الذين تفشت سيرهم وصاروا على شكل بشر... لا أحفل بكل ذلك !! المهم أني امسك بما تبقى من زجاجة الخمر التي حصلت عليها ملقاة على جانب الطريق.. أُسرع في خطاي لربما رغب فيها من القاها.. ما ان أدخل الزقاق حتى ألثم فم الزجاجة كأنه حلمة ثدي أمي التي لم ترضعني، لكني أتخيل ذلك أمتصها حتى اشعر بأنها تدفعني الى الوراء بعد ان جف ضرعها كما هي ايامي التي أعيش... فأنا و منذ متى لا ادري كيف دارت عجلة الزمن وحولتني الى متشرد يجوب الطرقات؟!! ما ان يأتي شيطان الليل متبخترا وهو يتطلع الينا نحن المشردين القابعين في تلك الأزقة او تحت الجسور أو حتى المقابر... عادة ما اسير بعيدا عنه أحاول ان استدل طريقي بالضياء الذي ينبعث من تلك الأعمدة الخافتة التي تشبه أضوية باب الكنيسة التي أمر من امامها كونها في الطريق المؤدي الى مكان حاويتي التي اقبع الى جانبها... في مرات ارى القسيس وهو يغلق الباب بعد انتهاء المراسيم أو ربما ليسرق نظرة ليرى هل هو آمن في بيت الرب؟ فبعد ان اختلفت معايير الإيمان عند الناس و الشياطين تمسك بزمام الأمور لم يفلح الإيمان في المخافة من العقاب... دون سابق إنذار رايته يدنو من حافة درجات باب الكنيسة قائلا: - عمت مساءا بني العزيز - أخذت ألتلفت حولي ثم اشرت بأصبعي إلى نفسي مستغربا!! هل تعنيني أنا؟؟؟ - نعم أنت... كيف حالك يا بني؟؟ إن بيت الرب يناديك - فرددت بإستغراب أشد!! ما لي والرب اصلا فما بالك في بيته، يبدو انك يا هذا تقصد غيري إليك عني ودعني امضي الى سبيلي - أنتظر للحظة... ألست أنت ماكغواير؟؟ - ما اشد دهشتني من أين له ان يعرف اسمي!!؟ فأجبت نعم أنا هو - إذن أنت المقصود... منذ فترة و انا ارقبك تقريبا في نفس وقت اغلاق باب الكنيسة مساء تأتي من نفس الطريق... أجدك تقف لِلحظات أمام الباب تتطلع و تشخص فيها ثم تمضي، لا اعلم لماذا تفعل ذلك؟؟ لا اخفيك كنت أتوجس خيفة منك، لكن وبعد أن جائتني في المنام السيدة وليس لمرة واحدة بل ثلاث مرات تقول لي أدعو ماكغواير الى بيت الرب إنه إنسان صالح... بداية تجاهلت الامر فأنا لا اعرف من يكون ماكغواير هذا الذي تدعونني ان اتحدث إليه، حتى استخبرت منها عنك وقد وصفتك بدقة شديدة و لفتت انتباهِ الى الوقت الذي تمر فيه امام الكنيسة كذلك وقوفك امامها... - توقف يا هذا إني لا افهم ما قلت!؟ و من هي السيدة التي تدعونني الى بيت الرب أهي تعرفني من قبل؟؟ - بني يبدو ان بذرتك مباركة فالسيدة لا تدعو أيا كان... إني أقصد السيدة العذراء و لا اعلم لم انت بالذات! فأنا واقسم إني لم أحظى بشرف رؤيتها منذ أن تسلمت زمام إدارة هذه الكنيسة او أثناء خدمتي في كنائس أخرى... إن حظي قد ابتسم لي واستطعت ان أراها لكن حظك اسعد فقد دعتك بالاسم .. يعني ذلك ان لك عندها حظوة - ايها الرجل الى الآن لم تفهم أو أني انا الذي لا يفهم مالذي يدور!! بالتأكيد أنك واهم.. فأنا لا اعرف بيت الرب او حتى الرب نفسه الذي تقدسه فما بالك بالسيدة العذراء، قضيت عمري أتلاطم مع امواج الزمن الذي حطم كل الصواري التي كانت تمسك بأشرعة الأمل و الطموح الذي كان يحدوني كإنسان، لم أؤمن قط برب او ابن رب أو ايا من تلك الآلهة التي يعبدها الناس، فأنا أعبد من يطعمني ويجعلني أشعر بإنسانيتي، هيا ادخل بيت ربك ودعني الى ربي الذي اعرف.. ابتعد مكغواير وهو يتمتم يا لك من رجل دين ماكر... بتلك الاشياء استطعتم ان تسيطروا على عقول السذج والمغفلين من الناس... السيدة العذراء تدعوك يا لها من حيلة!!؟ فمن اكون حتى تدعوني!؟ والى ماذا الى بيت الرب؟!!! الييت الذي لم يرعى القائمين عليه بالعناية بوالدي حين مات و بوالدتي التي لحقته بعد ان كانت من المواظبين على الصلاة وتقديم القرابين والاعمال التي تقدمها خدمة للرب وبيته... ماتت ولم يكن للبيت او الرب اي يد في مراسيم دفنها... ذهبت خدماتها وصلاتها سدى... حتى المشردين لم يحظوا بالعناية من الكنيسة او الرب الذي يقبع فيها إلا لأغراض خافية...  أخرج زجاجة الخمر التي ابتاعها بعد ان استجدى ثمنها من عابري سبيل... ينظر إليها و الى الشطيرة التي اراد ان يحتفل بأكلها وهو يترع من خمر تلك الزجاجة، شعر بقشعريرة غير اعتيادية الى جانب نسيم هواء بارد جعله يغشى عليه فرأى والدته وقد حفها الضياء من كل جانب وهي تبتسم إليه قائلة:  حبيبي مكغواير إني بخير بني وسعيدة.. اقسم لك أني اعيش بسعادة وانا هنا مع الكثير من رعايا السيدة العذراء هيا تعال حيث تدعوك، اترك ما انت فيه أعدك في الغد ستجد من يغير حياتك شرط ان تكون من ابناء الرب... إني بإنتظارك خرج عن غشيته منتفضا وهو يصرخ... أي جنون يركبني اللحظة!! تطلع الى الزجاجة مستغربا يقول إني لم اسكر بعد، يبدو اني اشعر بالجنون أخرج رأسه نظر الى زاويتي الزقاق لم يكن هناك سوى حشرجات وكلاب تبحث عن ما يسد رمقها، عاد حيث كان... ليكن يا أمي ما تقولين لكني الآن اريد اعيش لحظة الاحتفاء برؤيتك بخير أتمنى لوالدي المثل...  في ضحى اليوم التالي سار الى المكان الذي اعتاد ان يستجدي المارة فيه... فوجد ذلك القسيس الذي ما ان رآه حتى اتجه إليه مستقبلا إياه... قائلا: أتمنى ان تكون بخير هذا النهار بني ماكغواير.. هيا تعال معي الى داخل الكنيسة اتمنى ان تجد ما يطمئنك و يريح نفسك... - اسمع يا سيد لربما ما قلته بالامس و ما سمعته ورايت من والدتي يعني بعض الشيء لي، لكني لست ممن يطيق ان يجثو على ركبتيه طالبا الغفران من خطايا ما كانت لو كان الرب الذي تعبد قد أتاح لي فرص العيش الكريم كما غيري من البشر... لا تحدثني عن الإيمان او الاختبار، إني يا هذا قد امتلئت من ترهات ما كنت اسمعه ممن هم على شاكلتك، هيا ابتعد عد الى صومعتك وخذ بكل ما تريد الى حيث تريد.... دعني اعيش حياتي و اعبد الرب الذي اعرف، ذاك الذي يراني أتلحف الى جوار حاوية النفايات وهو لا يحرك ساكنا، إرتضيته ربا مهملا كسولا وأرتضاني أن اكون من عبيد الأزقة الذين يتطلعون الى عطايا بشر يدخلون بيته لكن ما ان يخرجون حتى يعيثوا فسادا ويزدادون شرورا... لا تقنعني فأنا أعرف الرب الذي تدعونني إليه، إنه رب صلب ودق جسده بالمسامير ولم يحاول إنقاذ نفسه... ترى ماذا يمكنه ان يفعل لي؟!! أما تلك السيدة التي تقول عنها فلابد أنها شعرت بمعاناة، ارادت مني مجازاة لما قامت به والدتي ان تقدم المساعدة عن طريقك او عن طريق بيت الرب... يا هذا كل بيوت الرب ماعادت آمنة بعد ان تسلطت الارباب البشرية وراحت تبني قصورا افخم من بيوت الرب، فهناك من يعبدهم و يبجلهم أكثر من الرب الذي تعبد إنهم بإختصار يا هذا عبيد الحاجة وعبيد المال... هيا عد من حيث أتيت فأنا وربك طرقنا لا تلتقي ابدا حتى لو مدت السيدة العذراء يدها للمساعدة إنه زمن أرباب الشياطين. القاص و الكاتب: عبد الجبار الحمدي - العراق كحبات الساعة الرملية نتسابق للهروب خوفا من ضياع وقت نهاياته غير معروفة، فهروبنا العكسي لا تنقضي صلاحيته... كحبات الرمل نتساقط دون ايام نعدها، نلوذ بالغربة وطنا دائم الصلاحية، الرقي، التحرر والتحضر مثالي الى حد أن تكون مجبرا ان تتقيد بكل حذافير القانون فأنت يا صديقي مشردا قسرا... لا اطيل انت تريد معرفة رأيي بالهجرة و ها انا اخبرك الحقيقة المُرّة التي اعيشها ونفسي و عائلتي، أقسم لك أني اموت فسي الثانية ألف مرة، فحياتي قد بدأ السل الرئوي يفتك برئة الحياة التي كنت اعيش كأن هناك من يهدم كل ما احب بمعول الغربة.. وطن هجرناه بإرادتنا، عنف كان يرافقنا ونظام سادي دكتاتوري، دُعينا اننا مناضلين مجاهدين فتلك عبارات يغلفها الكثير من النفاق و الرياء نحن شعب لا يستقيم إلا بالقلم والساطور... على اية حال لا اريد ان اقص ريشات الامل التي تريد ان تحلق بأجنحته.. ساكون لك عونا إن قدمت.. سأبذل قصارى جهدي في تذليل الصعب مما يواجهك... أشكرك عزيزي مؤيد... لعلك تعلم جيدا ما عانيت من النظام السابق.. لا اربد ان اتذكر واعيد سرد معاناتي، لكني اقسم لك بكل لحظة كنت اقضيها وإياك على شاطيء دجلة او على الجسر المعلق في بغداد حين كنا نرسم أحلامنا طائرات ورقية دافعين بها الى النوارس البيضاء... و اقسم لك أني اعيش بتلك الذكريات عند تمثال ابو النؤاس حين كنت تزورني ولا زال طعم الشاي على اطراف لساني حين اشربه معك قرب تمثال الحبوبي.... ذكريات ... ذكريات لو احصيتها لكانت اكثر من الف ليلة وليلة... ليس هينا ان اترك بقايا روحي والتحق بك اشعر بمعاناتك... أدرك ان روحك فارقت جسدك حين بت تملك جنسية غير الجنسية العراقية لكن يا مؤيد الوضع اختلف الان، الحال اسؤا مما كنت احسبه او اتوقعه صرنا عبيد الفساد والولاءات الغير... فكل بحمل جنسيته التي اغترفها ولاءا ولعقا لأحذية وطات البراز وجاء محمولا كمحرر فاتح للقيروان... لست بعيدا عن الاحداث فمن2003 الى الان ونحن في مربعات ضيقة لا يخرج منا سوى من صار مسؤولا او برلمانيا او كما يطلقون على انفسهم المحررين ... لا ادري ماذا حرروا الشعب والناس باتوا عبيدا لراية هنا او هناك ... صرنا نبتاع التدين سمة مثل بطاقة الدخول الى الساحة الترفيهية او مثل البطاقة التموينية التي يسرقها موزع الكمية مدعيا شهر لك وشهر لي ... كما قلت لك مسبقا إننا في حالة هروب جماعي عكسي نهرب الى الخارج بحجة الهروب الى الجنة رغم ان الجنة لا تستقبل الحثالات التي خرجت من بين ظهرينا... كل شيء يا مؤيد مباع حتى الهواء الذي نتنفسه مباع لدول الجوار... الجوار الغير آمن، فمن يجرؤ على التقول بغير ما يرغبونك ان تقوله... فهناك الموت المخبئ في عتمة ليل او صراحة في وضح النهار... القانون خرج يبتاع الحماية لنفسه، سلطة يحكمها مزامير أتوا بها بأجندات لا يمكن ان تقرأ إلا في خلوة خوف ان يعرف غيرهم السياقات الدنيئة لمستقبل وطن مباع... هون عليك أخي رحيم أظنك لا زلت كما أنت فمنذ عشرة سنين كنت تتحدث عن الامل في ان العراق سيتعافى.. لكني أتلمس من جرح حديثك انها بلغت الحلقوم منك، اراك تختنق بالهواء الملوث الذي تتنفسه رغم أنه هواء في سماء العراق... اخ يا عراق وجعي اكبر وان يحتويك بداخلي... تسلقت أسمك بعد ان طفت في كعبة عناوينك و وجدتني يتيما دون أم او اب، ترى ما الذي حدا حتى تكون ملا تتكالب عليك السكاكين اسلامية وغير اسلامية؟ ألبسوك وجها مستعارا ما لبث غضبك حتى أزاح المساحيق المبهرجة... سعيت وسعوا نالوا منك حتى رضخت للواقع المزري... ارجوك رحيم لا تثير زوبعة الحنين فبالامس خرجت من المشفى بعد ان اصابتني الجلطة وانا اشاهد الارض التي اقتصتها دول الجوار والحكومة تصارع الثروات العراقية الى من يذهب الرصيد الاكبر... جميعهم مشاركين في دفع العراق الى الهاوية اما انت يا رحيم فلا بد لك من الهروب الى الخارج، الهروب من واقعك الذي قتل كل من تحب... ساكون في انتظارك.. استقبلك بكل عمري الذي قضيته في صباي وشبابي معك... لا تنسى ان تجلب خبز من تنور والدتك فلا زال طعمه في فمي ورائحته تدفع بي الى الشهيق حد قطع النفس.. اخبرها ان تدهن واحدة منها بدهن الحر وان تضع السكر فوقه تلفه كما كانت تفعل عندما كنا نلعب ( جعاب ) باغطية قناني البيبسي الفارغة بعد ملئها بالطين... رحيم هيا تعال ودع روحك في العراق كما فعلت انا... تعال كي نعيش اجساد بلا ارواح و هروب عكسي نحو الفراغ الكبير الذي يسمى الغربة.

القاص و الكاتب: عبد الجبار الحمدي - العراق

لم يعد هناك ملاذ آمن، فآخر مرة وقف على باب منزلي جامع الضرائب يطالبني بالأقساط المتأخرة التي تراكمت علي بسبب الركود العالمي وإنحدار ما اروج له، فالابقار قد نفقت من عدم توفير العلف لها، بعت نصفها لاسدد الديون، والنصف الآخر جردوني إياه تحسبا لعدم قدرتي على العناية بها... لا اخفيكم في ليلة وضحاها أصبحت مشردا... كل ما املكه يتواجد في حقيبتي الصغيرة التي احملها على ظهري.. اقتات كالحيوانات السائبة متنقلا من حاوية الى أخرى حتى أستقر بي الحال الى مكان نائ لا جلبة فيه، ولكن حين تكون يؤمه عدد قليل من محبي صيد السمك... كنت قد اتخذت مسكني وفراشي أرض مبسطة بعض الشيء تحت شجرة تيبست اوراقها، يبدو انها هي أيضا قد طالها محصل الضرائب فبقت خالية من كل شيء إلا الاغصان المتيبسة رغم أنها تقطن على جرف نهر جار... لكن لابد أن هناك يد قد إمتدت لقطع وصول الماء إليها فبقيت تشكل رمزا للسلطة الجائرة في حق طبيعة الحياة... كنت قد استحوذت على قصبة مهملة في مكان ما فأتخذتها عصا صيد لي، خاصة أني امتلك خيط صيد للسمك بال وصنارة صدئة.. جلست بعد ان شددت ألزمها في رأس تلك القصبة، ثم حفرت بالقرب من جرف النهر، استخرجت بعض من الديدان ألقمتها كلها رأس الصنارة علي أغري سمكة طائشة فتلتهم الديدان هي وانا ألتهم من تقع ضحية طمعها... لا أريد التشبيه بينها وبين مؤسسات الدولة التي تعمل و موظفيها على مص دماء المواطن بحجة فرض القوانين و إلزامه بدفع رسوم البقاء حيا في ارض كان للخالق يد في صناعتها... لم اتوقع وانا مسجى انتظر ان يهتز قلقا خيط صنارتي ومن بعده اهنز أنا فرحا بما اصطادته الصنارة... جاء صوته معنفا لي..
- يا لِلؤمك... أنت هنا و أنا ابحث عنك منذ اسبوع أو اكثر؟
- هذا انت!!؟ ماذا تريد مني وقد أخذتم كل شيء، فحالي كما ترى مشرد لا امتلك فلسا واحدا كي أعين جوع بطني التي لم تذق الطعام النظيف منذ ان تعودت بقايا نافقة لأطعمة من نفيات الحاويات....
- هذا لا يهمني إنك مطالب بمبلغ كبيرعليك تسديده لمديرية الضرائب و إلا سيكون مصيرك السجن.
- مرحى لك والى السجن هيا ارجوك افعلها ضعني هناك كي اشعر أني اعيش تحت سقف و جدران و ارض يمكنني ان انام عليها وأسفل مني فراش يوقف صرصرة اضلعي حين اتقلب على ارض جرداء يابسة...
- أها.. اراك تفتعل ما انت فيه كي تهرب الى السجن، كأن السجن مؤسسة للمشردين امثالك، فأنت ومن على شاكلتك لا تستحقون الحياة حتى في مجاري المدينة التي تسكنها الجرذان، كن واثقا لا اعطيك هذا الامل و اعني ان تسجن فلست غبيا لاضعك في مكان تعمل الدولة على دفع الضرائب الكثيرة من أجل ان تؤهلك لتكون مواطن صالح... إبقى طالحا أجدى وأوفر، فلابد ستموت ويلقى بك في أقرب مزبلة تنهش بك الكلاب لفترة ما وتفارق الحياة كما يفترض لك... خذ هاك هذه القسيمة لتعرف كم المتبقي عليك من الضريبة...
- تمهل ألا ترى أو تعي ما أقول!!؟.. إني غير قادر على دفع ما تطلبونه مني فليس لي حتى راتب رعاية كما بقية العاطلين عن العمل، حاولت لكن الموظفين شاكلتك لم يمكنونني!! إنهم يريدون الرشى وأنا لا امتلك نقير شيء.. ها أنا ترى ما أنا فيه وصدق حين اقول إنها المرة الأولى التي اتواجد فيها في هذا المكان، ظننته سيبعدني عن بقية الناس وعن رؤية وجهك البارد، عندها تذكرت اني امتلك خيط وصنارة فحاولت ان اصطاد لي بعض الطعام من السمك إن شاء الحظ لي...
- هذا يعني انك يمكنك ان تصطاد وتبيع ما تصطاده للناس، و هذا لعله يساعد في جمع ما عليك لتسديد مبلغ الضريبة التي عليك..
- يا إلهي كم انت مجنون فعلا!!؟؟ أقول لك لا أمتلك اي فلس لأقتات لنفسي الطعام فجئت محاولا المستحيل لعلي اصطاد شيئا يجعلني آكله لأشعر بأني انسان و لست حيوان..
- هذا شأنك..دعني ادون ملاحظة اني رأيتك تصطاد وربما هذا سببا يرفع عنك ابطاء إلقائك في السجن الذي لا أريده فرصة لهروبك، و ربما يدفع بك الصيد لأن تعمل جاهدا في تسديد ما تبقى عليك من ضريبة مستحقة للدولة..
- ألا تفهم يا هذا أقول... لا امتلك شيئا فحتى هذه القصبة لا امتلكها لقد استحوذت عليها من تلك الأجمة هناك فقمت على تشذيبها حتى تكون كأداة صيد تعينني على صيد ما يبقيني حيا...
- الدولة هي من تبقيك حيا... ولولاها لكنت الآن في خبر كان، كما من الجيد انك ذكرت القصبة فحسب علمي تلك الأرض التي سلبت القصبة من أجمتها تابعة لمؤسسة الضريبة أي انك قمت بالإستيلاء على ما ليس هو حقك.. وهذا يضاف الى دفتر الملاحظات الذي اكتب فيه كل ما تقوم به و تفعلة وما تمتلكة... يبدو ان التشرد صنع منك لصا محترفا تحاول ان ترد الصاع الى مؤسسة الضريبة و تعمل على سرق ممتلكاتها التي جمعتها بإستحقاقها القانوني..
- أقسم يا هذا إن لم تذهب عني سأعمد الى دفنك تحت هذه الشجرة الميتة و اخفيك الى الابد ليرتاح الناس منك ومن مؤسستك الضريبية الحقيرة الناهبة لقوت واستحقاقات البشر... إذهب قبل ان اغرقك في هذا اليم..
- أتراك تفعلها يا متشرد... تحاول ان تهددني بالقتل وأنا اقوم بأداء واجبي الوظيفي للدولة... سأبلغ عن هذه الحادثة... لا.. لا أبلغ عنها فبذلك تنال مرادك وتدخل السجن ترتاح انت و انا اتعب و مؤسسة دائرة الضرائب تخسر ما عليك لها، بذلك تقوم بدفع اموال لتأهيلك... لن اعطيك الفرصة، لكني سأمنحك فرصة ثانية كي تسدد ما عليك، سأعود بعد شهرين كي أجني بقية المال المتبقي عليك لعلك تعلم أن مزرعتك و البقر فيها والمنزل والسيارة وحتى الإيداعات التي بأسمك أو أسم زوجتك وحتى التأمين الصحي و الإجتماعي قد وضعت المؤسسة يدها عليها لتسديد الضرائب المتراكمة عليك... هيا عش حياتك في هذا العالم واعتبر القصبة التي استحوذت عليها هي بمثابة مساعدة مقدمة من المؤسسة تعينك على جني قوت يومك على أن تسدد قيمتها مع الايام القادمة.. سأقيم ثمنها وأضيف الرسوم المترتبة على استعمالها,,, الى اللقاء
هذا كان آخر عهد له معي... بعدها لم أره أبدا.. لكني بقيت اصطاد في مكان آخر بنفس القصبة ذات الطالع الحسن علي.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-