عبّاس بيضون.. عودة للحرب الأهلية في "حائط خامس"

عبّاس بيضون.. عودة للحرب الأهلية في "حائط خامس"

06 ديسمبر 2022
عباس بيضون
+ الخط -

رواية الشاعر والروائي اللبناني عبّاس بيضون (1945) "حائطٌ خامس" رواية في الحدود التي يضعها البشر بين بعضهم، الحدود التي صاغها اختلاف المُعتَقَد، قبل أن تبنيها الحرب الأهلية بناءً حقيقياً، بتحويل الموانع الذهنية التي تعوق الاقتراب من الآخر ومعرفته، إلى عوائق مصاغة بالدماء.

ولا تقتصر الرواية الصادرة أخيراً عن "دار نوفل" على الحدود بين البشر؛ إذ يكتب بيضون عن الأشكال التي تُقيّد البشر أنفسهم، بوضعهم في قوالب. فأحد أبطال الرواية رجل دين مسلم، وعملُه رَجُل دين، هو شكلٌ يحكمه ويُقيِّده بحدود الشرع، وبالصورة المألوفة لرجال الدين. غير أنّ الروائي اللبناني يجيز لأبطاله الخروج عن قوالبهم الواقعيّة. شخصياته تنطق بالحبّ، ترغب في التحرّر ممّا يُقيِّدها بذاتها، وما يمنعها عن اللقاء بالآخر. 

يشير العنوان، العلامة التي تشمل الرواية بأكملها، إلى أمرَين كلاهما دلالي. فالحائط، كناية عن خطوط التماس في الحرب الأهلية اللبنانية التي تدور الرواية معها (عشية عام 1975)، ولا يختلف عن أي جدار يقسم مجموعة من البشر إلى معسكرَين. وهو حائط خامس لأنّه مختلف عن الجدران الأربعة التي تشكّل البيت والغرفة. فهو حائط قائم في الأفكار ومُصَاغ منها، وقد أشرعه الكهنة بين رعاياهم. الكهنة الذين فيهم من تمثّلات السلطة، أكثر ممّا لديهم من جوهر الدين.

الحائط الخامس الذي تركهُ بيضون في العنوان بلا تعريف، يعرّفه بواسطة قصص حُبّ عديدة. فالرواية ممتلئة بالعلاقات الغرامية. وجدوى فكرة الجدار هي إعاقة الحبّ. فالجدار هنا؛ يتصيّد الحُبّ، إذ يتلطّى من ورائه المجتمع كلّه كي يمنع لقاء المحبّين، طالما ليسوا رعايا الدين نفسه. والحائط الخامس الذي سَوّر بهِ البشرُ أنفسَهم، يتعدَّى كونه عقبة ذهنية. حتّى ليبدو أكثر صلابة من الجدران التي تحمي الناس. فهي في الحرب لم تحمهم، ولم تمنع دهماء الطوائف من اقتحام بيوت طوائف أُخرى.

ترغب شخصياته في التحرّر ممّا يقيّدها ويمنعها عن الآخر

هذا ما يقوله العنوان. لكنّ الجدار الذي يشغلنا في الحكاية هو جدار يفصل ويصل في آن معاً منزل الشيخ عبد الرحمن عن الكنيسة التي يسكنها القسّ مع زوجته وابنته غريس. وكان القسّ أوّلَ من استقبل الشيخ الذي وصل إلى الجنوب اللبناني بعد دراسته الدين في النجف، وقد بدأ حديثاً تبشيريّاً مع الشيخ الجديد. لكن سُرعان ما صدّر الشكل -الذي هو رجال دين- نفسهُ إلى القسّ والشيخ، سُرعان ما ظهر الحائط بينهما.

مع أنّ الشيخ الذي يكتبه الروائي بدا أنّه مصنوع من فكرة بيضون عن العيش كَكُلّ. فالشيخ عبد الرحمن يعمل بيديه في المنزل، يرتدي تي شيرت وأيضاً هو نباتي. وبدا أنّه قادم من زمان ما قبل الحرب الأهلية. فهو شيخ أقرب لِئَلا يكون شيخاً، لولا أنّ الشخصيات في الرواية تدعوه بصورة مؤكَّدة بالـ"شيخ". فهو عدا عن مناصرته المرأة وعدم إجازته الزيجات الأربعة، وعدا عن مجمل أفكاره التنويريّة؛ إلا أنّنا نراه يغازل الفتاة المسيحيّة، بل ويقع في حبائل الرغبة، ينساق إلى الرغبة، يسعى إليها، ولا يفكّر بمعاندتها. وبدا أنّ الجمال بنى أمام عينيهِ غشاوة جعلته يخاطر ويلحق الفتاة المسيحية إلى بيروت، إنّه لا يغازل من موقعه باعتباره شيخاً، إنّما يبدو شاباً من غير دين، سراطه خطى المحبوب وغايتهُ وصاله. إنْ ظهر هذا نقيضَ الصورة المألوفة للشيخ، إلا أنّ القارئ لا يستغربه، فقد أكّد بيضون بالمقابل؛ صورة الدين كما يفهمه العامّة. فالشيخ عبد الرحمن، أخلاقي إلى درجة يخالهُ القارئ لا يدرك بالفعل الحدود التي تمنعه عن الارتباط بالمسيحيّة. ودينهُ، دينُ الإنسانيّة.

كذلك يقابل صاحب "خريف البراءة" (2016) الشيخ بنموذج آخر، وهو الشاعر والشاب المسيحي أنطوان. الذي يبدأ تعارفه بالشيخ قبل أن يلتقي بهِ، من خلال أحاديث غريس عن شيخٍ يعرف إليوت وشكسبير ويجادل فيهما. هُنا، يضع بيضون نموذج الشاعر الذي يمثّل "اللاشيء" بعدم انضوائه تحت الكنيسة. مقابل الشيخ الذي يمثّل، باعتبارهِ شيخاً، شيئاً ما. لكن كلاهما منفتحان على أن يُغيّرا من طبيعتيهما، الشيخ عبد الرحمن سوف يصير أمام الحبّ للحظات، لا شيء. وأنطوان سوف يصير أمام مقتل شقيقه مع بداية الحرب الأهلية، شيئاً. إذ ينضم إلى "الكتائب" ويصبح مسؤولاً عن النشرة فيها، وقد خلخلت الحرب قناعاته حيال الانتماء إلى مجموعة جعلتْ منها الحرب مجموعة مهدّدة. فالاستهداف؛ هو ما أشعر أنطوان بالانتماء، هو ما قاده لأن يصير شيئاً.

رواية ممتلئة بالعلاقات الغرامية ووظيفةُ الحائط إعاقتُها

الحدث الأساسي في النّص يأتي من خارج الشخصيات، وهو بوسطة عين الرمّانة التي أشعلت الحرب. وكان خروج المسيحيين من قرية واصل ونزوحهم إلى بيروت أُولى بشاراتها. لكن قبل النزوح، نلمحُ سلوكاً لا يقلّ دلالة عن النزوح. يذهب الشيخ عبد الرحمن ووالدته إلى الكنيسة التي تقع على الجانب الآخر لجدار المنزل، تحت هول خبر حادثة البوسطة وانتشار الحواجز، وتحت تأثير الحَدْسِ بحتمية رحيل المسيحيّين عن القرية، الرحيل الذي بدا أنّه أقوى من الأهالي المتحابّين، وضدّ إرادتهم. فالدهماء، التي هي محض أشياء؛ ما إن يأتي زمانها حتّى يطغى صوتها على كُلِّ صوت. لكن قبل أن تسنّ الحرب الأهلية قانونها؛ يذهب الشيخ مع والدته إلى بيت المسيحي، حيثُ يبكي الجميع هناك بين أحضان بعضهم. ومن ثمّ يحضر الشيخ عبد الرحمن مع المسيحيّين تحت سقف الكنيسة اللحظاتِ التي تسبق الرحيل.

الصورة
حائط خامس - القسم الثقافي

يمكن التقاط الكثير من أفكار عبّاس بيضون في الشعر والحبّ على لسان الشاعر أنطوان والشيخ عبد الرحمن. صحيح أنّ الشاعر والروائي اللبناني الذي عرف الحرب أجاز لشخصيات روايته التحليق خارج أقفاصٍ من صنع الآخرين وجنايتهم، وفي سرده إشاراتٌ سحرية تُحرّر السرد من قيد الواقع برمّته، كصورة شقيق أنطوان على الجدار، التي يتغيّر لونها تدريجياً إلى الأحمر، ومن ثمّ ترشحُ دماً عندما يموت صاحبها. لكن لا تبدو هذه الحادثة غريبة على القارئ، لأنّ النصّ بكلّ ما فيهِ لا ينفك يعيدنا إلى الواقع، إذ رهن النصّ نفسه بالواقع، بقدر ما كان حرّكهُ وعي بضرورة التحرّر من هذا الواقع الذي يُؤلّه الموت ويمجّد ثقافته. حتّى لتبدو الشخصيات التي كانت تبحث عن مصير مختلف، وكأنّها عصبة، عصبة من العشّاق الأقرب لأن يكونوا مخرّبين، وما منعهم عن أن يكونوا مخرّبين هو قبولهم داخل أُسرهم.

النصّ متآلف حتّى في اعتراضاته، ولربما في هذا تكمن فرادته، وهو أقرب لأن يكون قصيدة تلتزم لغة السرد، مع إشراقات قادمة من عالم عبّاس بيضون، من شعره وثقافته وسعة تجربته. وهو يعرض في روايته ثقافة كانت في البيوت، بدا أنّ الحرب جاءت كي تئدها. في النهاية، الدماء هي التي رسمت المصائر الأخيرة للعشّاق، الشيخ تزوّج من مسلمة والمسيحيّة تزوّجت من قسّ قادم من لندن. وليست "حائط خامس" بما تقدّمه من صورة تنفذ بين الطوائف وتلتقط ما هو مشترك وحميم بين الأسر اللبنانية، سِوى تهديد رقيق، تهديدٌ يدور في عالم يبدو قديماً، ويبدو أثيريّاً لعذوبته، وهي عذوبة الشاعر وإتقان الروائي.


* روائي من سورية

المساهمون