صحة بريطانيا... القطاع وحياة المرضى في خطر

صحة بريطانيا... القطاع وحياة المرضى في خطر

07 ديسمبر 2022
تظاهرات لطلاب الطب دعماً للعاملين في هيئة الخدمات الصحية (هيثير ن.ج/ Getty)
+ الخط -

لم يسبق لهيئة الخدمات الصحية في بريطانيا (NHS) أن عاشت أزمة مماثلة منذ تسعينيات القرن الماضي. وليست حالة الشلل التي تهيمن أخبارها على الصفحات الأولى للإعلام البريطاني مبالغاً بها، إذ إنها تجاوزت عتبة التحذيرات وأضحت أزمة حقيقية تؤرق ملايين الناخبين. وإن بدأت هذه الأزمة مع جائحة كورونا وتداعياتها والاختناق الكبير الذي شهدته المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية، إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية وغلاء المعيشة والتضخّم كلها عوامل ساهمت في تعزيزها. ومع أن النظام المؤسساتي في بريطانيا فعّال ويتمتع باستقلالية تجعله قادراً على العمل بطاقته القصوى وعدم التأثر بالمجريات والمتغيّرات السياسية، إلا أن التخبّط الذي شهدته حكومات "حزب المحافظين" المتعاقبة خلال العامين الماضيين، كان له أيضاً وقع رجعي على معظم القطاعات وسط أزمة اقتصادية متفاقمة. 
وتكتسب أزمة القطاع الصحي اليوم خطورة مضاعفة مع التحديات التي يفرضها فصل الشتاء، منها ارتفاع معدّلات الإصابة بالأمراض التنفسية كفيروس كورونا والأنفلونزا والفيروس المخلوي التنفسي (RSV) وغيرها، وعجز فئات كثيرة عن دفع فواتير الطاقة وبالتالي عن تدفئة منازلها وقد تدنّت الحرارة إلى الصفر ليلاً في معظم مناطق المملكة المتحدة، ما يزيد أعباء القطاع الصحي ويضعف قدرته على الاستجابة السريعة لمجمل حالات الطوارئ. وقال رئيس الكلية الملكية لطب الطوارئ د. أدريان بويل لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، إن أكثر من 200 شخص لقوا حتفهم في الأسبوع الماضي متأثرين بمشاكل الرعاية الصحية العاجلة والطوارئ، وهو رقم لم تشهده البلاد بحسبه منذ تسعينيات القرن الماضي. 
ووصلت مدّة الانتظار قبل وصول سيارة الإسعاف في بعض المناطق إلى أكثر من 60 دقيقة استجابة لطوارئ الفئة الثانية كالكسور والجروح، بينما وصلت إلى أكثر من 15 دقيقة للفئة الأولى من المكالمات كالأزمات القلبية والسكتات الدماغية، أي أكثر من ضعف الزمن المحدّد بأقلّ من سبع دقائق. وذكر موقع "بي بي سي" نقلاً عن إحدى العائلات القاطنة في منطقة كورنوال الواقعة في أقصى غربي المملكة المتحدة، أن سيّدة تبلغ من العمر 85 عاماً اضطرت للانتظار لأكثر من 40 ساعة لتدخل إلى المستشفى بعد إصابتها بكسر خطير في الفخذ، بما فيها 14 ساعة انتظار "مؤلمة" جداً في سيارة الإسعاف خارج المستشفى. كما ذكر تحقيق منفصل أجرته "بي بي سي" في نهاية الأسبوع الماضي أن أكثر من 10 آلاف سيارة إسعاف تضطر أسبوعياً للانتظار خارج وحدات الطوارئ في المستشفيات لأكثر من ساعة، وهي أعلى مدة زمنية منذ بداية جمع البيانات عام 2000.  

يطالب الممرضون بزيادة الأجور بنسبة 3 في المائة (هيثير ن.ج/ Getty)
يطالب الممرضون بزيادة الأجور بنسبة 3 في المائة (هيثير ن.ج/ Getty)

وزارت "العربي الجديد" أحد المراكز الصحية في منطقة "هامرسميث" في لندن، والتقت بعض المحتاجين للرعاية الصحية للاطلاع على أبرز التحديات التي يواجهها المرضى حالياً. وكانت مدة الانتظار الطويلة التي يقضيها المريض بغض النظر عن فئته العمرية ريثما يحصل على موعد مع الطبيب المختصّ أكثر ما يؤرق المرضى، بالإضافة إلى مدة الانتظار التي يقضيها البعض في مراكز الطوارئ والتي امتدّت في بعض الحالات إلى أكثر من 6 ساعات، في حين أن الوقت الأقصى للانتظار كان سابقاً لا يتجاوز الساعتين. وذكرت سيدة تبلغ من العمر 70 عاماً أنها للمرة الأولى منذ بدأت بتناول دواء منظّم لضربات القلب، تفوّت أكثر من 3 حبات بسبب نقص الأطباء المسؤولين عن إرسال "الوصفة الطبية" للصيدليات، وتقول لـ"العربي الجديد"، إن المركز الصحي في منطقتها يقوم بمراجعة دوائية لجميع المرضى مرتين في العام، إلا أن أحداً لم يتواصل معها لإجراء تلك المراجعة، وبالتالي لم تجدّد لها الوصفة الشهرية، ما اضطرها إلى تفويت 3 جرعات. 

بدوره، يتحدث مريض يبلغ من العمر 68 عاماً عن معاناته من "ألم شديد" في الساق اليمنى يمنعه من المشي حتى لمسافات قصيرة أو صعود الدرج في بيته للوصول إلى الحمام وغرفة النوم، إلا أن الحصول على موعد مع الطبيب المختصّ استغرق أكثر من 3 أسابيع. يُذكر أيضاً أن المراكز الصحية المحلية الخاصة بكل منطقة من مناطق العاصمة، شهدت تراجعاً كبيراً بعد جائحة كورونا، إذ بات التواصل مع الأطباء يقتصر في معظم الحالات على المكالمات الهاتفية تفادياً لانتشار العدوى. يضاف إلى ذلك النقص الهائل في عدد الموظفين الذين تركوا العمل بعد الجائحة مفضّلين العمل عن بعد، أو أنهم عادوا إلى بلدانهم في أوروبا الشرقية بسبب تأثيرات "بريكست" (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). 
ولا تقتصر أزمة القطاع الصحي على النقص الهائل في العاملين والمعدّات في مقابل ارتفاع الحاجة لتلقي الرعاية الصحية لدى ملايين البريطانيين، بل تعيش البلاد اليوم خطر الإضراب الذي أعلن ممرضو هيئة الخدمات الصحية عن نيّتهم خوضه قبل نهاية العام الحالي يومي 15 و20 من الشهر الجاري، أي قبل أيام قليلة من عطلة عيد الميلاد ورأس السنة، إذا ما رفضت الحكومة إعادة النظر في زيادة الأجور بنسبة 3 في المائة، في الوقت الذي بلغت فيه نسبة التضخّم 11 في المائة. 

تشهد البلاد تراجعاً في الخدمات الصحية (غاي سمالمان/ Getty)
تشهد البلاد تراجعاً في الخدمات الصحية (غاي سمالمان/ Getty)

ولم تستجب الحكومة بعد لهذه المطالب مكتفية بتقديم حلول آنية لسدّ الفراغ "المؤلم" في حال نفّذ الممرضون إضرابهم هذا. إذ أعلن متحدث باسم "داونينغ ستريت" عن قيام الحكومة بتدريب 2000 من العسكريين والموظفين المدنيين والمتطوعين للحدّ من الاضطرابات التي ستنجم عن الإضراب المخطط له بعد أيام والذي سيشمل إنكلترا وويلز وأيرلندا الشمالية. وتجري مباحثات حالياً كي يحذو عمّال سيارات الإسعاف حذو الممرضين وينضمّون إلى قافلة المضربين عن العمل، ما سيعرقل وصول المزيد من المرضى إلى المستشفيات وبالتالي سيهدّد حياة مئات الآلاف من المحتاجين لرعاية فورية وطارئة. وردّاً على الإضراب، قال رئيس "حزب المحافظين" نديم زهاوي إن "الجيش سيكون على أهبة الاستعداد لقيادة سيارات الإسعاف" في حال نفّذ المسعفون إضرابهم، داعياً الممرضين إلى "إلغاء الإضراب والتفاوض مع نقاباتهم" لأن توقيت الاحتجاجات خاطئ. كما اعتبر زهاوي أن هذه الإضرابات "ستساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا وفي مزاعمه ومحاولته لتقسيم الغرب"، فما كان من الكلية الملكية للممرضين إلا أن انتقدته مشيرة إلى أن "الحكومة والوزراء هم الذين يرفضون فتح باب المفاوضات بشأن أجور القطاع الصحي".

 

يُذكر أيضاً أن حكومة المحافظين تواجه اليوم موجة قاسية من الإضرابات التي لن تتوقف عند القطاع الصحي المتهالك أصلاً، بل ستصل إلى معظم الخدمات الحيوية بما فيها قطاع النقل العام والتعليم وخدمات البريد والتوصيل، واتحاد رجال الإطفاء.   
في سياق متصل، أعلنت الممثلة البريطانية الشهيرة كيت وينسلت عن مبادرتها لدفع فاتورة الطاقة البالغة 17 ألف جنيه استرليني (نحو 20 ألف دولار) لإحدى العائلات في اسكتلندا، بعدما قرأت تحقيقاً في "بي بي سي" يروي معاناة أم تبلغ من العمر 46 عاماً لإبقاء ابنتها البالغة من العمر 13 عاماً على قيد الحياة. وتقول الأم إنها استغنت عن تدفئة كل غرف البيت لتستطيع تدفئة غرفة ابنتها فريا المصابة بشلل دماغي، والتي تعتمد بشكل كلي على الأوكسجين، ما يجعل فاتورة الطاقة مكلفة للغاية. وقالت كيت في لقاء مع "بي بي سي" إن قصة هذه العائلة "دمّرتها" وإنه من الخطأ السماح بحدوث معاناة شبيهة على هذا الكوكب. 
وفي انتظار أن ينفّذ الممرضون والمسعفون إضرابهم المقرر بعد أيام، يبقى أن القطاع الصحي يعمل اليوم بنصف الطاقة التي من المفترض أن يعمل بها لمواجهة أمراض الشتاء الآخذة في الارتفاع، مع ارتفاع نسبة الإصابة بفيروس كورونا والأنفلونزا والحمّى القرمزية (مرض بكتيري يظهر لدى بعض المصابين بالتهاب الحلق العقدي) التي تنتشر بين الأطفال في المدارس، والتي حصدت خلال الأسبوع الماضي فقط خمسة أرواح في المملكة المتحدة. 

المساهمون